الحصول على نتيجة سلبية من خلال فحص الإصابة بـ”كوفيد-19″ لا يعني التعافي

يجب أن تتضمن سياسة مواجهة الجائحة وضع تعريف للعدوى الطفيفة، وطريقة لقياس شِدتها.

بعد مرور ثمانية أشهر على اندلاع جائحة كورونا العالمية، ما زلنا نقيس آثارها من خلال تعداد الوفيات فقط، إذ تُصنَّف الحالات غير المودَعة في المستشفيات -على نحو فضفاض- كحالات “طفيفة”، دون الحرص على متابعتها، ويُستدل على التعافي من المرض بالخروج من المستشفى، أو الحصول على نتيجة سلبية من خلال فحص الكشف عن الفيروس. ويُلاحظ أن مدى اعتلال صحة مَن صُنفوا على أنهم “تعافوا” من المرض يُغْفَل تقديره إلى حد كبير. وهذا في الوقت الذي تتجاهل فيه الإحصاءات على مستوى العالم ملايين الأشخاص الذين ما زالوا على قيد الحياة ممن أصيبوا بمرض “كوفيد-19” (COVID-19)، ولم يخضعوا للفحوص اللازمة، أو يُودَعوا مستشفيات.

أما مَن كانوا يتمتعون بصحة جيدة قبل الإصابة بالفيروس، ويعانون الآن استمرار أعراضٍ، مثل الشعور بثقلٍ في الصدر، وضيق التنفس، وآلام العضلات، وخفقان القلب، والإرهاق، مما يمنعهم من العودة إلى أعمالهم، أو مزاولة الأنشطة البدنية، أو رعاية مَن حولهم، فما زالوا يُصَنَّفون ضمن المصابين بحالات “طفيفة” من المرض. وتُظهِر البيانات المستخلَصة من أحد تطبيقات الهواتف الذكية، صُمم لتتبُّع الأعراض في المملكة المتحدة، أن واحدًا -على الأقل- من كل عشرة أشخاص أبلغوا عن إصابتهم بالفيروس يعاني المرض لفترة تتجاوز ثلاثة أسابيع. والأعراض التي تستمر لعدة أسابيع، وتُضْعِف الوظائف المعتادة للجسم، ينبغي ألا تصنَّف على أنها أعراض طفيفة.

يجب أن تكون عملية البت في التعافي من “كوفيد-19” وقياس درجة هذا التعافي أكثر تعقيدًا من مجرد التحقق من خروج المريض من المستشفى، أو من حصوله على نتيجة سلبية من خلال فحص العدوى النشطة، أو على نتيجة إيجابية من خلال فحص الأجسام المضادة. فعند وَضْع تعريف للتعافي، سيغدو بإمكاننا التمييز بين حالات “كوفيد-19” التي تزول آثارها سريعًا، وصورة المرض التي تستمر لفترات أطول.

وقد عانيتُ في أواخر شهر مارس الماضي بعض أعراض “كوفيد-19″، ومنها: الحمى، والسعال، واضطراب الجهاز الهضمي، وآلام الصدر والساق، لكنْ لم يكن يخضع وقتها للفحص الطبي سوى المرضى الذين يُودَعون مستشفيات. ومنذ ذلك الحين، مررت بأيام عصيبة، شعرت فيها بأعراض المرض، ثم مررتُ بأيام تحسنَت فيها حالتي، ثم بأيام مرهقة تدهورَت فيها صحتي، وهو ما جعلني أندم على أي نشاط مارسته عندما بدأَتْ حالتي في التحسن، مثل المشي لمسافات قصيرة.

إنها لَفترة عصيبة أمرُّ بها، مِن حيث كَوني أكاديمية متخصصة في الصحة العامة، ومنخرطة في إجراءات مكافحة الجائحة، في وقت أعاني فيه هذا النمط الغريب من المرض، ولا أعرف تأثير الإصابة به على صحتي على المدى الطويل. وهذا يثير قلقي من جانب آخر، باعتباري أمًّا ترعى أطفالًا صغارًا.

إنّ عزائي فيما أعيشه الآن هو أنني لا أمر بهذه التجربة وحدي، فثمة الكثيرون ممن لم تَعُد حالتهم الصحية كسابقتها قبل الإصابة، حتى بعد شهور من بداية ظهور الأعراض، فالأعراض المتقلبة مثل تلك التي أعاني منها شائعة بين هؤلاء المصابين.

ورغم أن العاملين في القطاع الطبي والباحثين يملكون تصورًا عن الأشخاص الأكثر عرضة للوفاة من جرّاء مرض “كوفيد-19″، فإننا لا نعرف مَن الأكثر عرضة للإصابة باعتلال الصحة لفترات طويلة بعد العدوى، سواء تلك العدوى التي يصاحبها ظهور أعراض، أم التي لا تصاحبها أعراض. أما الفكرة التي ترمي إلى قبول انتشار درجات معينة من الإصابة في المجتمع، مع السعي لحماية الأشخاص الأكثر عرضة للخطر، فستغدو عقيمة، إذا لم نضع في اعتبارنا آثارها على الصحة ومعدل الإنتاجية، بوصفهما من تداعيات الإصابة بالمرض، إلى جانب الوفاة.

بدأ الباحثون في متابعة حياة المصابين بـ”كوفيد-19” بعد مغادرتهم المستشفيات، لكن ما زال هناك قصور في تحديد مدى اعتلال الصحة، المرتبط بهذا المرض، وتوصيفه لدى أولئك الذين لم يُودَعوا مستشفيات. وعواقب التهاون في تحقيق ذلك وخيمة، إذ قد لا يرى بعض الأشخاص -وخاصة الشباب والأصحاء- ضرورة لاتباع الإجراءات الوقائية، لأنهم يتوقعون ظهور أعراض تشبه أعراض الإنفلونزا، تستمر -في أسوأ الأحوال- لأيام قليلة، لا أكثر، مما قد يؤدي إلى حرمان المرضى من الرعاية التي يحتاجون إليها، وكذلك عدم تقدير التكاليف البشرية والاقتصادية الحقيقية للجائحة تقديرًا صحيحًا.

وما دامت “حالات كوفيد-19 ممتدة الأعراض” لا تصنَّف إلا على أنها حالات غير مؤكَّدة، فلن تؤخذ على محمل الجد، وسوف تتجاهلها وسائل الاتصال الجماهيري، وحملات التوعية. ولذا، نحن بحاجة إلى قياس شِدتها قياسًا صحيحًا ودقيقًا، إلى جانب قياس درجة التعافي لدى أولئك الذين لا تَظهَر عليهم أعراض مرضية شديدة في بداية الإصابة.

دعونا نبدأ بمثال مُبسَّط، فمع الأمراض الفيروسية الشائعة الأخرى -مثل الإنفلونزا- قد نتوقع أن التعافي يعني استعادة الحياة الطبيعية، والقدرة الوظيفية، اللتين تمتع بهما المريض قبل الإصابة بالمرض. وهذا يعني أنه تجب علينا متابعة جميع المرضى الذين ثَبتت (عن طريق الفحوص) إصابتهم بـ”كوفيد-19″، أو الذين تُحتمَل إصابتهم بهذا المرض بدرجة كبيرة (استنادًا إلى الأعراض). كما تجب معرفة ما إذا كان هؤلاء المرضى قد عاودوا أنشطتهم بصورة طبيعية في غضون فترة زمنية محددة من ظهور الأعراض عليهم، أم لا.

ويجب أن يشمل تعريف “التعافي” مدة الأعراض، ومدى تقلبها، وشِدتها، بالإضافة إلى القدرة على أداء الوظائف، واستعادة الحياة الطبيعية. ويجب أن يُصنَّف كل شخص تظهر عليه الأعراض على أنه “حالة مرضية”، إلى أن يستوفي معايير التعافي، أو توافيه المنية. تلك هي المبادئ الأساسية التي يرتكز عليها علم الأوبئة، ونحتاج فقط إلى تطبيقها على هذه الجائحة.

ولفِعْل ذلك، يجب علينا أيضًا تحديد مَن أصيب بالعدوى في المقام الأول. ففي حال غياب الفحوص، أو عدم دقتها، يجب تزويد الأطباء بمعايير عامة وبسيطة يسترشدون بها في تشخيص المصابين بـ”كوفيد-19″. وتُعَد الدراسات التي تميز الأعراض النموذجية على مستوى السكان نقطة انطلاق جيدة في هذا الصدد.

ومع الصعوبات التي تواجهها بالفعل أنظمة الرعاية الصحية، وأنظمة متابعة الحالات ورصدها في التأقلم مع الجائحة، لا يُعَد قياس التعافي مهمة سهلة. لذا، فمن المنطقي إنشاء سجلات مرضية، على غرار سجلات داء السرطان، لمتابعة حيوات المرضى بمرور الوقت، وتسجيل أحوالهم الصحية. ويمكن تحقيق ذلك بإجراء فحوص سريعة، شهرية أولًا، ثم سنوية لاحقًا، لدى مقدمي الرعاية الصحية. وفي حال عدم إمكان إعداد سجلات على مستوى كل بلد بالسرعة الكافية، يمكننا البدء في إعداد سجلات محلية.

وفيما يخص جهود متابعة الحالات ورصدها، يجب على وكالات الصحة العامة إعطاء الأولوية للاتفاق على معايير لتعريف التعافي، وعلى شكل الأنظمة التي يمكن فيها تنفيذ هذه المعايير. كما يجب علينا إجراء أبحاث متابعة الحالات ورصدها، بالاستناد إلى الدراسات التي تتناول الخصائص التي تميز أولئك الذين يعانون اعتلال الصحة لفترات طويلة. ويجب علينا أيضًا أن نتعلم كيفية تحديد الفئات الأكثر عرضة للإصابة، وحمايتها.

يحتاج الفِكْر القاصر، الذي يتعامل مع الوفاة باعتبارها النتيجة السيئة الوحيدة للإصابة بـ”كوفيد-19″، إلى أن يتطور ويتسع ليشمل الأشخاص الذين يُضْعِف المرض من صحتهم ومقدرتهم، وإنتاجيتهم، ويضطرهم للعيش مع آلام أكثر حدّة. وكل هذا يعني أننا بحاجة إلى نظام أفضل لمتابعة الحالات ورصدها. وتُعَد الخطوة الأولى الأساسية لتحقيق ذلك هي وضع تعريفات واضحة وشاملة للتعافي، وشدة الإصابة بـ”كوفيد-19”.

 

نسرين إيه. علوان أستاذ مساعد في قسم الصحة العامة بجامعة ساوثهامبتون في المملكة المتحدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »