الزراعة والارض فى أسوان القديمة

 

بالرغم من أن الزراعة تشغل حيزًا مساحيًّا واضحًا في النوبة، وتعطي محاصيل لا غنى عنها للنوبيين، إلا أنه لا توجد ملكية زراعية في النوبة بصورة عامة؛ فقد سبق أن عوضت الحكومة السكان عن الأراضي التي كانوا يملكونها تحت منسوب ١٢٢ مترًا بعد تعلية سد أسوان للمرة الثانية في سنة الثامن ١٩٣٣.

وبالتالي فإن الأرض التي تزرع هي من النوع الذي يُسمى قانونًا زراعة الخفية أو زراعة منافع، وكانت الحكومة تتقاضى عنها مبالغ زهيدة قدرها ١٥ قرشًا للفدان الواحد سنويًّا، فمثلًا كانت قسائم زراعة المنافع التي يدفعها أحد كبار الممارسين للزراعة في كروسكو شرق على النحو الآتي: ١١٣ مليمًا عام ١٩٣٦ عن زراعة ١٦ قيراطًا، و١٦ سهمًا في حوض سند، وتراوحت القسائم التي كان يدفعها بين ١٣٥ مليمًا (١٩٣٧)، و٢٠٢ مليم (١٩٥٦)، و١٤٦ مليمًا (١٩٦٠ و١٩٦١)، و١١٤ مليمًا (١٩٦٢).  وهذه الاختلافات غالبًا ما توضح أن الزراعة لا تستغرق نفس المساحة سنة بعد أخرى.

ولكن زراعات النوبيين لم تقتصر على أرض التعويضات السابقة، بل كانت هناك محاولات ناجحة من جانب السكان ومن جانب الحكومة على اكتساب أراض جديدة فوق منسوب ١٢٢ مترًا، وهذه يُطلق عليها أراض مستجدة بالنسبة لما يستصلحه السكان، وأراضي المشروعات بالنسبة لما تقوم به الدولة من استصلاح، وبرغم أنها كلها تقع ضمن تسمية أراضي المنافع، إلا أن الدولة قامت بتعويض السكان عما كانوا يمتلكونه من أراض مستجدة وأراضي المشروعات، وكان هذا التعويض في شكل عيني؛ أي يُعطى المالك مساحة مماثلة لما كان يملكه في أراضي المهجر في منطقة كوم أمبو.

وقد بلغت مساحات الأراضي المستجدة وأرض المشروعات نحو ١٥٫٩ ألف فدان، قدرتها الحكومة بمليونين ومائة خمسة وخمسين جنيهًا في ١٩٦٣؛ أي بواقع نحو ١٣٥ جنيهًا للفدان في المتوسط، وتتوزع هذه المساحة على النحو الآتي:

(١)كانت الدولة قد أقامت ١٣ محطة طلمبات للري، منها ست طلمبات تروي ٤١٠٠ فدان ريًّا نيليًّا، وسبع محطات تروي ٧٥٠٠ فدان ريًّا مستديمًا، ومعنى ذلك أن مساحة أرض المشروعات كانت ١١٦٠٠ فدان، وربما كانت بلانة في أقصى جنوب النوبة من أكبر المشروعات الزراعية؛ فقد بلغت مساحتها نحو ٢٢٠٠ فدان، بينما كان مشروع الدكة متوسط الحجم — نحو ٦٢٥ فدانًا — والعلاقي في حدود ٦٠٠ فدان، وكانت مثل هذه المشاريع في منطقة النوبيين أكبر من قدر السكان المحليين، بحيث إنها كانت تستوعب مهاجرين من البلاد التي تأثرت أراضيها بشدة نتيجة تعلية سد أسوان، ومن بلاد الكنوز بصفة خاصة.

ويتضح ذلك من أسماء نجوعٍ وسواقٍ وأحواضٍ هي استعارة من أسماء القرى التي وفدوا منها؛ مثل نجوع أمبركاب ومرواو وأبوهور في توشكى غرب، ونجع الدكة في توشكى شرق، ونجع وترعة كورسكو ونجوع أبو حنضل والديوان وقتة وإبريم في بلانة. أما مشاريع الدكة والعلاقي فقد استفاد منها الكنوز من سيالة جنوبًا إلى جرف حسين شمالًا بتملك أراضٍ في صورة ملاك غائبين.

(٢) أراضي العلو» الواقعة في بعض مناطق النوبة مثل العلاقي والدكة والمضيق، وخاصة تلك التي توجد خلف جسور الوقاية في نواحي بلانة وقسطل وأدندان، والتي بلغت مساحاتها نحو ٢٣٠٠ فدان.

(٣) كانت المساحة التي استزرعها الأهالي بين ١٩٣٤ و١٩٦٣ نحو ألفي فدان تُروي بالسواقي أو الشواديف أو بصفائح الماء، ومعظمها عبارة عن أرصفة تقام بواسطة حائط حجري أعلى من منسوب ١٢٢ مترًا، يملأ خلفه بالطين لتسوية السطح، وبما أن ذلك يتم بالجهد البشري دون آلات، فإن معظم هذه الأرصفة عبارة عن مربعات صغيرة نحو ٣ × ٣ أمتار.

كما شاهدها بوركهارت من قبل قرن ونصف القرن، فلعلها إذن تقليد قديم ظل يُمارس ربما مئات السنين من قبل، ولكن هناك أرصفة ذات مساحة لا بأس بها قد تصل في حالات قصوى إلى نحو ٦٠–٧٠ مترًا مربعًا، وذلك في الأماكن المناسبة للري بالشادوف، أو الشادوف المزدوج. ونتيجة لصغر مساحات الأرصفة هذه، وصغر مساحات الري بالسواقي إلى فدان أو ثلاثة أفدنة كحد أقصى للساقية نتيجة قلة الأبقار من ناحية، والرغبة في عدم إجهادها من ناحية ثانية لضعف قيمة الناتج الزراعي، وارتفاع ثمن البقر عند بيعه لتجار الصعيد من ناحية ثالثة؛ فإن كل هذه المدخلات قد أدت إلى صغر المساحات الزراعية المكتسبة بواسطة الأهالي خلال ٣٠ سنة إلى ٢٠٠٠ فدان أو نحو ذلك.

وقد نتخذ دليلًا على ذلك ما يأتي:

أولًا: أنه كانت في النوبة مساحات لا بأس بها صالحة للزراعة سنويًّا بعد انحسار مياه خزان أسوان، مثلًا كانت في منطقة قرشة نحو ٢٦٠ فدانًا صالحة للزراعة، وفي سيالة مائتي فدان، وفي كورسكو ١٥٠ فدانًا، لكن المزروع في هذه الجهات لم يكن يتعدى ربع المساحة المتاحة، والسبب واضح في قلة الأيدي العاملة من ناحية، وفي كفاية المنتج لاحتياجات السكان المقيمين — إذا تذكرنا أنهم لم يزيدوا عن ربع مجمل سكان بلاد النوبة. وهنا لا بدَّ أن نضيف سلعًا تموينية كانت تأتي من الشمال نتيجة تحسن وسائل النقل النهري، وهو ما لم يكن متيسرًا في القرن الماضي، ولعل هذا، مع كثرة هجرة العمل للرجال، قد أدى إلى قلة واضحة في الاهتمام بغلة الأرض المحلية.

ثانيًا: كان ملاك الأراضي الزراعية في النوبة يشكلون ٤٣٪ من مجموع الأسر، وبقية الأسر لا تملك أرضًا، ومن هؤلاء الملاك ٥٣٪ يُمارسون الزراعة، وكان بين غير الملاك أُسَرٌ تعمل بالزراعة غالبًا عند الملاك الذين لا يمارسون النشاط الزراعي، أو هم ملاك غائبون، وأكثر الملاك المزارعون هم بين النوبيين، بينما أكثر الذين لا يمتلكون أرضًا هم بين الكنوز، ومن ثم فإن النشاط الزراعي استمر كتقليد تاريخي في حدود المتاح من الأرض دون عناء استثمار في استصلاح جديد من الحقول، إلا في النذر اليسير، ومن ثم كانت الإضافات في صورة الأرض المستجدة صغيرة على مر جيل بأكمله والملكيات — أو حق الانتفاع — متوارث منذ أنشأ الجد الأكبر الساقية أو اختط الحقل، ويستمر اسم صاحب الساقية أو الحوض الأصلي برغم أن التوارث الشرعي قد فتت الملكيات إلى مساحات صغيرة قد تبلغ جدولًا — نحو قيراطين — أو بضعة أسهم.

٠وحيث إن ماء النهر وفيضانه هما أساس الزراعة، فإن الملكيات عادةً تمتد من واجهة على النهر — أو خور يصله الفيضان — إلى الداخل المرتفع تدريجيًّا، وحين تقتسم الأرض بين الورثة تأخذ هذا الشكل الشريطي من النهر إلى الداخل، وقد تبلغ الأشرطة عرضًا ضيقًا يصعب معه تشغيلها، ومن ثم تُوكل إلى الجار أو الجيران لزراعتها مع أراضيهم، ثم يقتسم المحصول بحسبة معروفة لديهم، ومن لا يفعل ذلك تُترك شريحته دون زراعة، وقد يكون لذلك مردود اجتماعي أيضًا بمقتضاه قد يقلل الناس التعامل معه، وسبب هذه الشرائح العرضية أن الأرض بجوار النهر غيرها في الداخل، ومن ثم لا يجوز لأحد من الورثة الحصول على الأرض الجيدة وحده، ويجوز أن يمتلك الشخص عدة شرائح في عدة أحواض نتيجة لميراث الزوجة أو الخئولة،

وهذه الحالة توضح صعوبة تشغيل الملكيات الزراعية؛ مما قد يساعد على إهمالها، وهو ما يفسر عدم زراعة كل الأراضي الصالحة للزراعة — فضلًا عن إغراءات العمل الخارجي. وإذا كان هذا ينطبق على معظم النوبة، إلا أنه لا ينطبق بنفس القوة على جنوب النوبة؛ حيث تشترك عوامل متعددة هي خصوبة التربة وسهولتها، والتساند الاجتماعي مع نمط الملكية في تكوين نويات المجتمع المرتبطة بالعائلة، أو ما يُسمى «نوج»، بينما تلعب العشيرة دورها في تكوين نويات المجتمع في بلاد الكنوز.

والخلاصة أنه برغم تقسيم الملكية أو حق الانتفاع بين الورثة الشرعيين، إلا أن النوبيين لا يُقسمون الأرض فعلًا برغم أنها مقسمة نظريًّا، والوارث الذي يزرع كل الأنصبة له نصف العائد أو أكثر قليلًا، ويوزع الباقي على بقية المستفيدين؛ كلٌّ حسب نصيبه من الأرض. وكان لهذا الشكل من الاتفاق العام نتيجتان؛ الأولى: أنه يحفظ العلاقات بين الناس، ويُحافظ على استمرارية الزراعة بشكل له عائده الحدي، والثانية: أنه إما أن يكون انعكاسًا لاستمرارية هجرة العمل خارج النوبة، بحيث يأتي بمصادر خارجية تعين على استمرار الحياة للمقيمين من الأقارب، وإما أن استحالة ممارسة الزراعة لكلٍّ في أرضه الصغيرة قد أدت إلى نظام هجرة العمل، وفي الحالتين فإن التكافل الاقتصادي قد أصبح سدى التلاحم والتكافل الاجتماعي الذي ميز النوبيين طويلًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »