نميرة نجم: تعويضات الدول الكبرى عن تلوث البيئة ليست صدقة

قالت السفيرة د. نميرة نجم خبير القانون الدولى والهجرة والمستشار القانونى لفريق دفاع غانا أمام محكمة العدل الدولية، إن ديون تعويضات الأضرار الناتجة عن تلوث البيئة ليس مفهومًا مجردًا، بل هو التزام أخلاقى وقانونى لتمويل بقاء الأمم الأكثر تضررًا من نظام عالمى غير مستدام.
وأضافت، هذا ليس إحسانًا أو صدقة من الدول الكبرى، بل واجب قانونى للتعويض عن الضرر العابر للحدود، وعلى عكس بعض الدول، ترى غانا أنه ينبغى على محكمة العدل الدولية أن تأخذ فى الاعتبار كامل مجموعة القوانين عند إصدار رأيها، لأن نظام التغير المناخى جزء من كل ولم يبدأ مع اتفاق باريس، والنهج الضيق ليس هو النهج الصحيح.
جاء ذلك أثناء مرافعة السفيرة كممثلة لدفاع غانا أمام محكمة العدل الدولية فى جلسات المرافعات الشفهية التى تعقدها محكمة العدل الدولية حول طلب الرأى الاستشارى المقدم من الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى المحكمة والذى يهدف لاستطلاع رأى المحكمة بشأن التزامات الدول فيما يتعلق بتغير المناخ.
وقالت السفيرة فى مرافعتها مخاطبة رئيس وأعضاء المحكمة المحكمة: يشرفنى أن أمثل غانا أمامكم اليوم، واسمحوا لى أن أبدأ برسم أوجه التشابه بين هذا الطلب المنظور أمامكم اليوم ورأى المحكمة الاستشارى السابق حول الأسلحة النووية.
كلاهما يمثل تهديدات وجودية لبقاء الحضارة، فى ذلك الرأى، أقرت المحكمة بأن “البيئة ليست مجرد مفهوم مجرد، بل تمثل مساحة المعيشة، وجودة الحياة، وصحة البشر، بما فى ذلك الأجيال التى لم تولد بعد”.
وأضافت، أن الدول النامية وخاصة الإفريقية منها، لا يمكن أن تكون مناطق تضحية لكى تحصّن الدول الغنية نفسها، وأود أن أذكر هنا أن هذه المحكمة فى قضية الأسلحة النووية أكدت من جديد مبدأ الضرر البيئى العابر للحدود، وهو على وجه التحديد: “الالتزام العام للدول بضمان احترام الأنشطة التى تقع ضمن ولايتها القضائية وسيطرتها لبيئة الدول الأخرى أو المناطق الواقعة خارج نطاق السيطرة الوطنية”.
وانتقلت السفيرة بعد ذلك، إلى مبادئ القانون الدولى التى تحكم التزامات الدول قائلة: أبدأ بالمسؤولية المشتركة ولكن المتباينة، والتى تهدف إلى حماية البيئة، ويدعم هذا المبدأ المادة 3 من اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ لعام 1992 والمادة 2 من اتفاق باريس لعام 2016، ويعود أصله إلى السفير المالطى أرفيد باردو الذى اقترح عام 1967 اعتبار الموارد الموجودة فى قاع المحيط جزءًا من “التراث المشترك للبشرية”.
وتتمثل هذه الفكرة فى أن جميع الدول لها مصلحة مشتركة فى الموارد المشتركة العالمية، ولكنها تدرك أيضًا أن الدول لديها قدرات مختلفة لاستغلال هذه الموارد، وبالتالى، بدأ الالتزام بحماية البيئة قبل فترة طويلة من اتفاق باريس، ولا ترى غانا أنه من المناسب تقييد المحكمة فى هذا الاتجاه.
وأوضحت السفيرة، الجزء “المشترك” من المسؤوليات المشتركة المتباينة إلى المسؤولية المشتركة للدول عن الحفاظ على الموارد المشتركة التى تقع خارج نطاق ولاية أى دولة ولكنها “تراث البشرية جمعاء” بينما تنطوى المسؤولية المتباينة على جانبين.
أولاً: لن يكون من العدل فرض نفس الالتزامات على الملوثين التاريخيين كما هو الحال على أولئك الذين ساهموا تاريخيًا بالقليل جدًا فى المشكلة، وإن الدول التى ساهمت بشكل أكبر فى المشكلة تتحمل حصة أكبر من العبء.
أما الجانب الثانى: يتعلق بالقدرات المختلفة للدول المختلفة، ومن المعروف أن الدول المختلفة تمتلك “ظروفاً وطنية مختلفة” استناداً إلى مستويات مختلفة من التنمية التى تؤثر على قدرتها على التخفيف من آثار تغير المناخ من خلال التكنولوجيا والموارد المالية، وأن مفهوم المسؤولية المشتركة المتباينة يستند إلى مفهوم الإنصاف والعدالة المناخية والحق فى التنمية وما أسماه توماس فرانك “العدالة”.
وعن الخسارة والضرر قالت السفيرة: أثبت الزمن أن الخسائر والأضرار البشرية والاقتصادية يمكن قياسها، لذا، تدحض غانا الحجج ضد مسؤولية الدولة بسبب الافتقار إلى القياس أو السببية، أو حتى أن معاهدات المناخ لا تعالج مسؤولية الدولة، فى الواقع، تم ذكر “الخسائر والأضرار” فى المادة 8 من اتفاقية باريس، دون ذكر المسؤولية أو التعويض عن الآثار الضارة لتغير المناخ.
ومع ذلك، فإن هذا الإغفال لا يهدف إلى إزاحة مصادر أخرى للقانون الدولى بشأن تغير المناخ، حيث أدلت العديد من الدول عند التصديق على هذه الاتفاقيات بتصريحات صريحة تؤكد أن لا شىء فيها يحل محل الالتزامات من مصادر أخرى للقانون الدولى وغانا فى نفس الموقف.
وعن معيار العناية الواجبة فى القانون الدولى العرفى شرحت السفيرة، أن غانا ترى أن القانون الدولى العرفى بشأن تغير المناخ يسير جنبًا إلى جنب مع معاهدات تغير المناخ حيث يكمل كل منهما الآخر، جنبًا إلى جنب مع الالتزامات القانونية الدولية الأخرى المطبقة عليها.
وكما تقول موريشيوس، حيث لم ينجح نظام المعاهدة الحالى فى وضع العالم على المسار الصحيح لحماية النظام المناخى من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحرارى العالمى، فإن الواجب العرفى للوقاية يظل ذا صلة وقابل للتطبيق مثل قضية Trail Smelter 1938 التى أكدت مسؤولية الدول عن الأضرار العابرة للحدود، وقضية Pulp Mills وقضية الأسلحة النووية أعادت تأكيد هذا المبدأ كجزء من القانون الدولى العرفى.
كما عرّفت اتفاقية التلوث الجوى بعيدة المدى لعام 1979 التلوث بأنه: إدخال الإنسان مباشرة أو بشكل غير مباشر لمواد أو طاقة فى الهواء تؤدى إلى آثار ضارة تهدد صحة الإنسان، الموارد الحية، النظم البيئية، الممتلكات، أو الاستخدامات الشرعية للبيئة.
وأضافت السفيرة، من وجهة نظر غانا من الممكن علميًا تحديد مسؤولية الدول عن الانبعاثات الحرارية وآثارها الضارة، كما يؤكد ذلك إعلان نيروبى أن أفريقيا تتحمل العبء الأكبر لتغير المناخ رغم مساهمتها المحدودة فى المشكلة.
وأكدت، أن أهم الالتزامات، العناية الواجبة فى القانون الدولى العرفى للدولة “بعدم السماح عن علم باستخدام أراضيها فى أعمال تتعارض مع حقوق الدول الأخرى، وهذا مبدأ راسخ فى القانون الدولى العرفى ومقبول على نطاق واسع من قبل الدول المشاركة فى هذه الإجراءات، ويعود هذا المبدأ لقضية مثل Trail Smelter التى أكدت مسؤولية الدول عن الأضرار العابرة للحدود، وقضايا مثل Pulp Mills ليتم تأسيسه كقانون دولى عرفى وإعادة تأكيده هذا المبدأ كجزء من القانون الدولى العرفى فى قضية الأسلحة النووية.
ويشمل هذا الواجب، الالتزام بمنع الضرر البيئى من خلال انبعاثات الغازات “المسببة للاحتباس الحرارى العالمى من أراضى الدولة”.
وتابعت: منذ عام 1979 تم تعريف تلوث الهواء فى اتفاقية التلوث الجوى عبر الحدود على أنه “إدخال الإنسان بشكل مباشر أو غير مباشر لمواد أو طاقة فى الهواء مما يؤدى إلى آثار ضارة من هذا النوع من شأنها أن تعرض صحة الإنسان للخطر، وتضر بالموارد الحية والنظم الإيكولوجية والممتلكات المادية، وتضعف أو تتداخل مع وسائل الراحة وغيرها من الاستخدامات المشروعة للبيئة” وبالتالى فإن معرفة الآثار الضارة لتلوث الهواء وتأثيرها على المناخ ليست ظاهرة جديدة، بل هى ظاهرة راسخة منذ فترة طويلة.
وسلطت السفيرة، الضوء على أن غانا على عكس ما ذكرته الدول الاسكندنافية فى مرافعتها أمام المحكمة، تتفق مع عرض جزيرة “فانواتو” بأنه من الممكن علميًا تحديد حصة أى دولة من الاحتباس الحرارى العالمى وما إذا كانت مثل هذه الانبعاثات قد تسببت فى ضرر كبير للنظام المناخى.
وأن غانا ترى أن السببية موجودة، وأن المسؤولية تنشأ بمجرد أن تدرك الدول أن غازات الدفيئة تسبب الاحتباس الحرارى العالمى.
ونوهت السفيرة، إلى أن تعبير إعلان نيروبى بشأن نداء العمل من أجل تغير المناخ، وما قرره رؤساء الدول والحكومات الأفريقية: “يعترفون بأن أفريقيا ليست مسؤولة تاريخيًا عن الاحتباس الحرارى العالمى ولكنها تتحمل العبء الأكبر من آثاره، مما يؤثر على حياة الناس وسبل عيشهم واقتصاداتهم”.
وأضافت، من خلال الفشل فى السيطرة على تلوث الهواء فإن سيادة الدول الملوثة قد انتهكت سيادة دول أخرى فضلاً عن التأثير على حقوقها الأساسية، يشير اتفاق باريس فى ديباجته صراحة إلى الالتزامات بموجب قانون حقوق الإنسان والحق فى التنمية المتأثر بتغير المناخ، وفى الآونة الأخيرة، تطور القانون ليعترف بأن البشر يتمتعون “بحق فى بيئة صحية”.
واعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة فى قرارها 76/300 “بحق الإنسان فى بيئة نظيفة وصحية ومستدامة”، وفى حين قد يرفض البعض هذا باعتباره توصية يمكننا أن نرى كيف كانت قرارات الجمعية العامة فى الماضى بمثابة إعلان للقانون الدولى العرفى فضلاً عن تبلور العديد منها كقانون صارم، بما فى ذلك الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، وجريمة الإبادة الجماعية، والحق فى تقرير المصير، ويعكس الحق فى بيئة صحية مفهوماً أفريقياً خاصاً للقانون الدولى ينعكس فى المادة 24 من ميثاق بانجول، التى تنص على أن “لكل الشعوب الحق فى بيئة مرضية عامة مواتية لتنميتها”.
وأن هذا الحق من الجيل الثالث يعكس الطريقة التى تكون بها حقوق الإنسان غير قابلة للتجزئة ولا يمكن فصلها كما اعترف بها الناشط كين سارو ويوا الذى انتقد الطريقة التى أدى بها التنقيب عن النفط إلى تلوث مصادر المياه وحرق الغاز إلى تسميم الهواء وتدمير الأسماك والحياة البرية وجعل الأرض غير خصبة.
وبلغت وقائع هذه القضية ذروتها فى القرار الرائد الذى أصدرته اللجنة الأفريقية فى قضية SERAC ضد نيجيريا والذى وجد انتهاكات للحياة والممتلكات والبيئة والصحة، وأن إعلان هذا الحق يعبر عن حقيقة واضحة، وهى أنه بدون بيئة صحية سيصبح من المستحيل التمتع بحقوق أخرى ويصبح بقاء البشر والأنواع الأخرى معرضًا للخطر.
كما تم الاعتراف بالصلة بين حماية البيئة والصحة فى الهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة، وتم تأكيد ذلك أيضًا من خلال المادة 2 من اتفاقية التنوع البيولوجى وقرارات منظمة الصحة العالمية التى أكدت على الصلة بين فقدان التنوع البيولوجى وصحة الإنسان، وكما تطور البشر إلى حالة أعلى من المعرفة، يجب أن يتطور القانون ليعكس حالتنا الحالية من المعرفة والفهم العلمى.
وأضافت السفيرة، لن تقتصر عواقب ارتفاع مستويات سطح البحر والتصحر على فقدان الأرواح والعواقب الضارة بالصحة وفقدان سبل العيش فحسب، بل إن بقاء الأمم والدول المهددة بوجودها يعنى تآكل حقها فى تقرير المصير، وتتحمل الدول التزامات إيجابية لحماية الحقوق، على سبيل المثال، يمتد الالتزام بحماية الحق فى الحياة إلى المواقف المتوقعة والمهددة للحياة.
وقد يشكل الفشل فى التصرف خرقاً حيث تشكل التهديدات للحياة خطراً “حقيقياً ووشيكاً” قبل فقدان الحياة، وتم تعريف “الخطر الحقيقى والوشيك على الحياة” فى قضية Verein Klima Senior innen Schweiz and Others v Switzerland من قبل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان على أنه “تهديد خطير وحقيقى ويمكن تحديده بشكل كافٍ لحياة مقدم طلب محدد، ويتضمن عنصراً مادياً وتهديداً بالضرر الذى يدعيه مقدم الطلب”.
وفى السياق الأفريقى الذى يعترف بالحقوق الجماعية والدعوى الشعبية، يمكن تفسير هذا على نطاق واسع على أنه تهديد لسكان أو مجموعة من الناس.
واختتمت السفيرة مرافعتها قائلة: فيما يتصل بالأجيال والشعوب فى المستقبل، تلاحظ غانا أن الدول اليوم هى الوصى الحالى على “الأجيال الحالية والمستقبلية” كما هو منصوص عليه فى ديباجة قرار الجمعية العامة بشأن الحق فى بيئة صحية، ومبدأ التنمية المستدامة ومبدأ الحيطة والحذر مهمان هنا.
وعلى وجه الخصوص، ينبغى لنا أن ندرك أن “الهواء” و”البيئة” لهما صفة مقدسة فى العديد من الأنظمة القانونية، والطبيعة ليست شيئا “يروضه” البشر أو “يستغلونه” لتحقيق مكاسب تجارية.
ويستند فهم السكان الأصليين للغلاف الجوى مثل الأرض، إلى الاحترام الثقافى والروحى للحياة للحفاظ عليها ونقلها إلى الأجيال القادمة، وباختصار يجب على البشر أن يسيروا بهدوء على هذه الأرض.